مقياس النص السردي المغاربي 

لقد استطاع الفن السردي على اختلاف أجناسه لفت الانتباه إليه مذ تشكل ملامحه، فقد شهد الفكر الإنساني، والحركة الأدبية العالمية تحولات كبيرة مع نشأة الفن القصصي منذ القرن الخامس عشر الميلادي، وازداد هذا التحول أهمية، فشكّل انعطافة فكرية وثقافية وأدبية مؤثرة مع نهاية القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، حيث ميلاد الرواية والقصة القصيرة.إذ أسهمت الرواية والفن القصصي على نحو عام إسهاماً كبيراً في تغيير العقلية الأوروبية، وبناء الإنسان، وتغيير ضمير العالم المتمدِّن، "فثورة الخيال – على حد وصف (كولن ولسن) – هي التي غيّرت أوروبا  وليست الثورة الصناعية ولا الثورة الفرنسية، إذ لم يحدث أي شيء في أوروبا يمتاز بالثورية التامة إلى حوالي سنة 1740."[1] وقد مثّلت الرواية بعداً جديداً في الحرية الإنسانية، نتيجة الطاقة التعبيرية التي تنطوي عليها كونها تستطيع التعبير عن واقع الإنسان بجميع أبعاده تعبيرا حقيقيا بسبب حجم التماهي بينها وبين الواقع، لأجل ذلك ما فتئت الفنون السردية وعلى رأسها الرواية التربع على عرش الأجناس الأدبية حتى أنها زاحمت الشعر باعتباره رائد هذه الأجناس، بل راحت تتعداه مكتسحة بذلك عالم الإبداع الأدبي حتى غدت صرحا لغويا ضخما يضم بين دفتيه جميع الأجناس على اختلاف مستوياتها اللغوية.
من هنا بات من الضروري على المشتغلين بحقل اللغة والأدب خصوصا طلبتنا الكرام من شعبة الدراسات الأدبية إيلاء العناية التامة للفن السردي باعتباره عالما لغويا مترامي الأطراف يتطلب بذل جهد حثيث في فهم ما أمكن من أساليبه وطرق بنائه وخصائصه ومقوماته وتنظيراته وفسيفساء لغته واتجاهاته وروافده، من خلال جملة من المقاييس المتعلقة بهذا الفن، كمقياس السرديات العربية الحديثة والمعاصرة  ومقياس جماليات السرد العربي القديم، ومقياس النص السردي المغاربي الذي تعكف هذه المطبوعة البيداعوجية على تناول مواضيعه باعتباره جانبا مهما من هذا الصرح يتيح للدارس الاطلاع عن كثب على طبيعة النصوص السردية المغاربية وما تتسم به من خصائص فنية وتقنيات سردية، سواء على مستوى الموضوعات أو على مستوى اللغة والتي تجعل منها نتاجا فنيا متفردا ينماز عن غيره من النصوص السردية المشرقية وحتى الغربية، كما سنحاول الكشف عن أثر السياقات التاريخية والثقافية والاجتماعية والفكرية والسياسية في توجيه خطية الكتابة السردية المغاربية خصوصا وأنّ مضامينها تلتقي في مواطن كثيرة فرضتها القواسم المشتركة (الدّين، اللغة، العادات والتقاليد، التاريخ ....)، كما سنحاول رصد التمايز الحاصل في النتاجات المغاربية التي أفرزتها مرحلة التجريب وفق خصوصية كل بلد من هذه البلدان.
لقد استطاعت الرواية المغاربية فرض حضورها على السّاحة الفنّية العربية والعالمية بسبب خصائصها الفنّية المتفرّدة من جهة، ومواكبتها لأساليب وتقنيات الكتابة الفنّية الحديثة، وإتقانها للعبة اللغوية التي تعتبر أساس البناء السردي ومادته الأولى، لذا بات من الحكمة توجيه أنظار طلبتنا الكرام إلى تكثيف النظر في هكذا نصوص كونها تمثل أنموذجا راقيا في مجال الكتابة الأدبية عموما والسّردية خصوصا.          
 


[1]  كولن ولسون، فن الرواية، تر : محمد درويش، مكتبة بغداد، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت لبنان، ط: 01، 2008، ص: 34.